جريدة عالم السياحة والاقتصاد، تهتم بصناعة السياحة باطيافها ، الشؤون الاقتصادية والبيئة والسياحة الدينية والمغامرة والسفر والطيران والضيافة

ومن الهبل ما قد يُكلف الكثير!!! بقلم :د. عبدالله الطوالبة

د. عبدالله الطوالبة

23٬238

ذات رحلة سياحية، شملت البترا ووادي رم ثم العقبة، توقفت بنا الحافلة على مبعدة بضع كيلومترات من وادي موسى. نزل معظم الركاب، ورأيتهم يتجهون إلى بناء صغير مقبب على جانب الطريق، ويخرجون من هناك وبيد كل منهم كأس شمعي أبيض مملوء بالماء. تجاهلت الأمر في البداية، لكن لَسعة فضول لم أستطع مداراتها، جذبتني لتبيّن “سر” تهيأ لي أنه يكمن في هذا المكان. دخلت البناء المقبب، وكان مزدحما بالزوار المتجمعين حول حوض ماء، تتوسطه صخرة مطبوع عليها بصمة قدم انسان. من تحت الصخرة يجري جدول ماء، يغرف منه شاب واضح انه يقوم بدور الدليل السياحي، ويعبئ الكؤوس الشمعية البيضاء بأيدي الزائرين. كان الشاب يردد بإنتشاء لا يعرف الملل، أن البصمة الظاهرة على الصخرة، هي أثر قدم النبي موسى. بطبيعي أمره، ينكر العلم الحديث مصداقية ذلك، ويتعامل مع هذا النوع من الآراء، كظاهرة إيمانية قديمة، ما لم يؤكدها علم الأركيولوجيا، أي علم الآثار المتخصص في المجتمعات والثقافات القديمة.

تدافعت في الذهن أسئلة كثيرة، أولها، لماذا يصر الدليل السياحي الشاب على أن النبي موسى بالذات، دون سائر الأنبياء مرّ من هنا، والدليل أثر قَدَمِهِ على الصخرة؟! لماذا لا يكون النبي شعيب، على سبيل المثال لا الحصر، هو الذي يظهر أثر قدمه على الصخرة؟! فقد يبدو الأمر قابلا للأخذ والرد، على الأقل بحكم الجغرافيا. فبحسب الرواية الدينية، يُعرف قوم شعيب ب”مَدْيَن” أو أصحاب الأيكة، ومكانهم في جغرافية اليوم، شمال غرب الحجاز.

بالطبع، لم يكن بالإمكان سؤال الشاب عن مصدر معلوماته، خاصة وانه كان يرددها بحماس، وبنبرة تشي بأن ما يقول من المُسَلّمات، خاصة وأن السؤال قد يحتمل الشك. وقد بدا الشاب من النوع، الذي يردد ما يُلقى في روعه بحرفه وحذافيره، من دون تدقيق أو تَبَصّر. واضح أن المشكلة ليست به، وإنما بالمصدر الذي يُلقنه معلومات كهذه.

استحضرت زيارة قمت بها برفقة أسرتي الصغيرة، قبل سنين إلى جبل نبو غرب مأدبا. وقد صدف أثناء ما كنا هناك، زيارة مجموعة سياحية من دول اجنبية. علق في ذهني قول الدليل السياحي الأردني “الهُمام” المرافق للسياح الأجانب، بنبرة حماسية أيضا: “هنا وقف النبي موسى عليه السلام ونظر إلى أرض الميعاد…”. فور سماع ذلك، فرض نفسه السؤال: هل يوجد مصدر تاريخي واحد يؤكد ذلك، ويثبت مرور النبي موسى بأرض الأردن، وفي أي مرحلة تاريخية كان هذا المرور؟! كم بودي لو تجيبنا وزارة السياحة على ذلك، اذا كانت هي مصدر معلومات الأدلاء السياحيين المتحمسين.

السؤال الذي طرحت قبل قليل، ينطلق من حقائق العلم الحديث، ومن أهمها أن الأحداث التاريخية، حتى لو ذُكرت في نصوص دينية بطريقة ما، فإنها تظل تحت علامة سؤال ما لم يؤكدها علم الأركيولوجيا (علم الآثار).

هنا، يستدعي السياق، لا بل ويفرض علينا وقفة مع ما توصل علماء آثار اسرائيليون، لإماطة اللثام عن حجم ما يعشش في رؤوسنا من هَبَل. نأ. سيلبيرمان وجفينكيليستين، مختصان اسرائيليان في الأركيولوجيا، ألّفا كتابا بعنوان :”الكتاب المقدس وقد تعرى”، يقولان فيه بالحرف :”إن ما كان يُظن وقائع تاريخية في أسفار العهد القديم، لم يكن الا أساطير، مثل الخروج من مصر، وشق البحر بعصا موسى، وهيكل سليمان، الذي اتضح انه شخصية أسطورية(سليمان)، والملك داود الذي يعتبر شخصية تاريخية، اتضح أنه شخصية نصف أسطورية”.

أما عالم الآثار، البروفيسور في جامعة تل أبيب، زئيف هيرتسوغ، فيرى أن اليهود لم يأتوا من مصر، وأن الهروب الخارق بقيادة موسى عبر البحر الأحمر، والتيه في صحراء سيناء وصولا إلى غزو أرض الميعاد، كلها مجرد أساطير.

عالم آثار اسرائيلي آخر، هو ميشيل هونبيك، يقول إن حفائر علم الآثار لم تقدم أدلة ملموسة لتأكيد تاريخ اليهود، كما جاء في التوراة. ويذهب إلى القول بأن معظم قصص التوراة لم تحدث بالفعل، ويمكن اعتبارها مجرد أساطير.

وفي الصدد أيضا، نشير إلى ما توصل اليه العالم في شؤون الأديان والحضارات القديمة، البروفيسور العراقي خزعل الماجدي. يؤكد البروفيسور الماجدي في العديد من مؤلفاته التي نافت على المئة وعشرة كتب، ويقول في مقابلاته وحواراته التلفزيونية، إن علم الآثار الذي يعتمد على حفرياته علم الأديان الحديث، لم يعثر على دليل واحد يؤكد تيه “قوم موسى” في سيناء أربعين عاما.

هكذا يقول العلم، وعندما يتحدث العلم، فعلى أصحاب العقول المغيبة أن ينصتوا على الأقل، ويتوقفوا عن ممارسة دور الببغاوات، وعلى وجه التحديد، بخصوص ما نشك بوجود دليل على ثبوته.

أما الأخطر من دور الببغاوات، فنضعه في صيغة سؤال على النحو التالي: هل تعلم الجهات المسؤولة عن الأدلاء السياحيين خاصتنا، أن الصهيونية في سياقات دأبها على تزوير حقائق التاريخ والجغرافيا، تعتبر الأردن جزءا من وعد بلفور المشؤوم؟!

هنا، ثمة ما هو أخطر أيضا. هل تعلم هذه الجهات شيئا عن الاستراتيجية الصهيونية القائمة على أنه ما لم تُحل مشكلة الديمغرافيا الفلسطينية، بالمنظور الصهيوني طبعا، على حساب الأردن، فإن مشروعهم في فلسطين زائل لا محالة؟!

لماذا، ومليون لماذا، نجاهر بمعتقدات تحطب في حبال المشروع الصهيوني تجاه الأردن؟!!!

اذا كان وعينا الجمعي مؤمنا بما ذكرت على ألسنة أدلائنا السياحيين، الا نبدو على درجة من السذاجة والهبل تقول لبني صهيون، هاكم أدلة على أن لكم” حقا” في الأردن أو في أجزاء مهمة منه؟!!!

بالمناسبة، من يستخدم محرك البحث “غوغل”، بخصوص وادي موسى، سيجد اللازمة غير السّارة التالية:” ان وادي موسى يُنسب إلى نبي الله موسى بن عمران. ويُذكر أن نبي الله موسى عليه السلام قد نزل في مكان هذا الوادي، وكان على علم بقرب أجله، فأخذ الحجر الذي يتفجر منه 12 عينا، وسمّر الحجر في أحد جبال تلك المنطقة، ثم خرجت منه 12 عينا، وبعد ذلك تحولت إلى 12 قرية، وكانت كل قرية لجماعة من الناس”.

فهل من دليل علمي يثبت ذلك، او نص ديني يقول به؟!

بصراحة أتساءل أيضا: هل يتعلق الأمر بالهبل والغفلة، أم أنّ في الأمر “إنّ”؟!!!

سأفترض حسن النية، وأجنح إلى القول بالسذاجة والغفل.

قديما قالوا، من الحب ما قتل. تنويعا على هذا القول، وبناء على مضامين هذا المقال، أدعو البعض منا إلى التوقف عن إشهار تجليات بعض هبلنا، وأقول : إن من الهبل ما قد يكلفنا الكثير!!!