نضال منصور يكتب :الإعلام ترياق… حين يطوق الموت العالم
مر اليوم العالمي لحرية الصحافة في شهر مايو من هذا العام دون ضجيج الاحتفاء والاستذكار كما كان يجري كل سنة في أكثر بقاع العالم. كأن جائحة كورونا كانت مُناسبة مواتية للتواطؤ ضد حرية الإعلام، وفرصة ذهبية لإخفاء الجرائم التي تُرتكب ضد الصحفيين أينما كنت على هذه المعمورة، ويُفلت مرتكبوها في معظم الأحوال من العقاب.
مرت هذه المناسبة بسعادة على أنظمة الاستبداد لأنها وجدت في جائحة كورونا ستارا لتمارس مزيدا من القمع والانتهاك ضد حرية الصحافة، ولتُسكت إلى حين الأصوات التي تجرأت على انتقادها.
في الثالث من مايو من كل عام يُحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة، وترتفع الأصوات التي تكيل قصائد المديح للصحافة ودورها، ولكن هذه الاحتفالات لم توقف يوما رصاص كواتم الصوت عن اغتيال الصحفيين والصحفيات، ولم تُنه العذاب الذي يعيشه مئات الصحفيين خلف قضبان السجون.
عام 2019 كان الأرحم على وسائل الإعلام، فلم يُقتل سوى 49 صحفيا في العالم، بينما سُجل مقتل 95 عام 2018، وفقد 82 صحفيا وصحفية أرواحهم عام 2017، في حين وثقت لجنة حماية الصحفيين وجود 250 صحفيا معتقلا في سجون العالم.
لا تُبشر منظمة مراسلون بلا حدود بمستقبل زاهٍ لوسائل الإعلام في السنوات القادمة، وفي تقريرها عن مؤشر حرية الإعلام، تؤكد أن العقد القادم سيكون حاسما لمستقبل الصحافة، مُبينة أن عدة أزمات تعصف بها في مقدمتها الأزمات الجيوسياسية، حيث تزداد عدوانية الأنظمة الاستبدادية، ناهيك عن بث الكراهية تجاه وسائل الإعلام، وتفاقم الأزمات الاقتصادية التي تُعاني منها المؤسسات الصحفية حول العالم.
مر اليوم العالمي لحرية الصحافة دون الاحتفاء وكأن جائحة كورونا فرصة مواتية للتواطؤ ضد حرية الإعلام
هذا الواقع دفع الأمين العام لمراسلون بلا حدود كريستوف ديلوار للتنبؤ إلى أن صورة الصحافة ووجهها عام 2030 يتم تحديدها الآن، وبكلام مختلف ما لم تخرج وسائل الإعلام من تحت المطرقة الآن، فإنها ستبقى تئن من انتهاكات الأنظمة من جهة، والحصار الاقتصادي والمالي من جهة أخرى.
طغى وباء كورونا على ما سواه، ولم تعد قضايا الحريات وحقوق الإنسان تتصدر الأجندة حين يغرق الناس بتعداد الموتى الذين يفتك بهم الفيروس كل يوم، وحرية التعبير والإعلام ليست استثناء وربما تُعد ترفا حين يجتاح العالم أنظمة الطوارئ، وتتمدد الصلاحيات والتدابير الاستثنائية التي تُقيد الحقوق، وتُصبح حماية الصحة والسلامة العامة ذريعة لانتهاك الخصوصية، والحد من حق الناس في التنقل وممارسة حياتهم الخاصة.
يعرف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التداعيات المؤلم لجائحة كورونا على حرية الصحافة، ويعرف جيدا أن الصحافة أول الضحايا في الأزمات على مر العصور، ولهذا يُذكّر بأهمية تمكين الصحفيين من أداء عملهم خلال جائحة كورونا، ويقول في كلمة له في اليوم العالمي لحرية الصحافة “إنهم يقدمون الترياق” في موجهة أزمة كورونا.
احتفالية 2020 باليوم العالمي لحرية الصحافة حملت عنوان “مزاولة الصحافة دون خوف أو مُحاباة” لم تُلفت الانتباه، فالعالم مُنشغل بالضحايا، والكارثة الاقتصادية المُحدقة، وبملاحقة الأمل باختراع مصل يوقف تقدم الفيروس، ولا يجد حديث الأمين العام للأمم المتحدة صداه حين يُشير إلى أن تفشي الجائحة اقترن أيضا بجائحة ثانية تتمثل في تضليل الناس عن طريق نشر نصائح مضرة، أو بالترويج لنظرية المؤامرة.
تخوض الصحافة معركة بقاء، فالحكومات أينما وجدت لا تُطيق سلطة تراقبها وتكشف زلاتها
الأمين العام لم يترك الأبواب مواربة فهو يُحذر من تزايد العقوبات والقيود على الصحفيين منذ تفشي الوباء، ويقول إذا كانت القيود المؤقتة على حرية التنقل ضرورة، فإنه لا يُقبل استغلالها كذريعة لإضعاف قدرة الصحفيين على ممارسة عملهم، والواقع والحقيقة أن الجائحة كانت شرارة البدء لعدد من الدول للدوس على حقوق الإنسان، ولتصفية الحسابات مع المعارضين السياسيين، ولملاحقة الصحافة وإنهاكها.
لا جديد في مؤشرات حرية الإعلام في العالم العربي، فهي كالعادة تتذيل القائمة، والاستثناء المفاجئ حين تحتل أي من الدول العربية مكانة دون المئة كما حدث مع تونس، جزر القمر، وموريتانيا فهذه حكاية تستحق الاحتفاء، وتستحق أن تروى كقصة نجاح.
في السنوات الأخيرة تكاد تُجمع التقارير الدولية أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُعد المنطقة الأكثر خطرا على عمل وسائل الإعلام، والأمر لا يتوقف عند حكومات مستبدة لا تحترم استقلالية الصحافة، وإنما في غياب سلطة القانون، وتوظيف التشريع ليصبح أداة لكبح وتقييد حرية الصحافة، ومن ينجو من ظلم وبطش الحكومات المستبدة لن يسلم من سلطة المجتمع الزاجرة أحيانا، أو رصاص الإرهاب أحيانا أخرى.
تقوم وسائل الإعلام بمساءلة القادة وتواجه السلطة بالحقيقة، هكذا يراها الأمين العام للأمم المتحدة، ويزيد على ذلك المقرر الخاص لحرية الرأي والتعبير بالأمم المتحدة ديفيد كاي حيث يعتبرها أداة أساسية للمعلومات، والقوة التي كشفت خداع الحكومات خلال جائحة كورونا.
تخوض الصحافة معركة صراع بقاء ووجود، فالحكومات أينما كانت لا تحب ولا تُطيق سلطة تراقبها وتكشف زلاتها وأخطائها، وهذه الأزمة تتضاعف مع تنامي الحكومات الديكتاتورية والشعبوية حول العالم، غير أن حدود معركتها لا تتوقف عند أنظمة تسلطية، أو تشريعات مُقيدة، بل تمتد إلى خطاب كراهية وتحريض يتسع ضدها، ومنصات تواصل اجتماعي تسحب البساط من تحت أقدامها، فتأخذ جمهورها أولا، ثم تُجهز عليها بالضربة القاضية حين تستولي على مواردها الأساسية من الإعلان.
الاحتفالات لم توقف رصاص كواتم الصوت ضد الصحفيين ولم تُنهِ عذابهم خلف قضبان السجون