جريدة عالم السياحة والاقتصاد، تهتم بصناعة السياحة باطيافها ، الشؤون الاقتصادية والبيئة والسياحة الدينية والمغامرة والسفر والطيران والضيافة

كتب شكري العبادي (ابوسيف ):”جدي الفارس والشاعر محمد عبد ربه الطويقات (1906–1987)”: سطور تُكتب بالدمع والالم

680

كتب شكري العبادي (ابوسيف ):

جدي الفارس والشاعر محمد عبد ربه الطويقات (1906–1987): سطور تُكتب بالدمع والالم

– مقالات :

في مطلع حزيران من عامه الأخير، كان الزمن يسحب ببطء آخر أنفاس أحد أعظم الرجال الذين أنجبتهم البوادي. ذاك الجسد النحيل، الذي ظنناه لا ينكسر، أثقله المرض فجأة، حتى انطفأت عيون الشاعر الجملتين… تلك العيون التي لطالما أضاءت المجالس بالحكمة، وسكنت القلوب بالشعر، واستقرت فوق رؤوس الرجال كأنها راية شرف.

لقد سقطت من بين أصابعه ريشة الباركر التي خطّ بها قصائده، وقلم الوترمان الذي دوّن به حكمته، وساعة الرولكس التي حفظها عقوداً فوق معصمه، وسقط بعدها المسدس… مسدسه الذي ما عرف يوماً إلا ظهر الفارس. عندها فقط، أدركت أن النهاية كُتبت، وأن الأرض تستعد لتواري بين ترابها قامة لا تُعوض ولا تتكرر.

مدرسة اسمها محمد عبد ربه
لم يكن اسماً عابراً، بل كان مدرسة كرامة. كان كريماً، شجاعاً، يمسك بالحجة كما يمسك الفارس بحد السيف، ويردد دوماً: “الحجة تحتاج إلى شجاعة.” لم يكن من أولئك الذين يثرثرون في المجالس، بل كان مستمعاً يقظاً، مشدود الأذن إلى إذاعات الـ BBC والمونت كارلو، لا بحثاً عن خبر، بل عن بصيرة شغوفا في قراءة الكتب

لم يكن بيته قصراً، لكنه كان ملاذاً. لم تكن يده ذهبية، لكنها كانت بيضاء، تمتد لكل محتاج ولكل ملهوف. لم يكن يقول يوماً: أنا زعيم، أو صاحب جاه، بل كان يردد همساً مطمئناً: “إن مع العسر يسراً… إن مع العسر يسراً… وتفرج إن شاء الله.” ، الناس هم من رفعوه فوق الزعامة، هم من جمعوا قلوبهم على محبته، وقالوا بصوت واحد: هو الزعيم الذي لا يسقط.

شاعرا أمام الفاسدين
والحاسدين، لم يكن يغضب، بل كان يضحك، يهز رأسه، ويلقي عليهم شعراً لاذعاً، قائلاً: “يا وقعتي ما بين خاين ودلال…وامورا يضحك لها السفهاء ويبكي من عقبها الحليم” كان يعرف كيف يهزمهم بأدب، وكيف يجلسهم في الصفوف الأخيرة من مجلس الرجال، في أيام كانت تُختبر فيها معادن الناس.

ما زلت أذكر، وكأنها بالأمس، يوم سالني دولة طاهر المصري، وزير الخارجية عام 1986، عن تلك المجلات التي كنت أشتريها بانتظام: الوطن العربي، الدفاع، مجلة الحوادث. نظر إليّ بدهشة وسألني عن سر هذا الالتزام، فضحكت وقلت له: “تعلمت ذلك من جدي، وأنا طفل في السادسة فابتسم في وجهي وقال حفظ الله جدك

واليوم، مع اقتراب موعد ذكرى رحيله، أبحث عن ظله في وجوه الرجال فلا أراه. أبحث عن صوته في المجالس فلا أسمعه. أبحث عن حكمته في الأزمات فلا أجدها. رحلت، يا جدي، وتركت الريشة والمسدس على الطاولة، لكنك لم تترك قلوبنا، ولم تتركنا نحن الذين تعلمنا من صبرك، وشجاعتك، وبياض يدك.
يا فارساً ارتحل… يا شاعراً ماتت القصائد في عينيه… يا زعيماً ما احتاج إلى لقب… سلام عليك يوم ولدت، ويوم كنت. لنا نوراً، ويوم غادرتنا، وستبقى ذكراك ناراً في قلوبنا لا تخبو
رحمك الله يا جدي محمد عبد ربه الطويقات، وجعل ذكراك خالدة، وألحقنا بك ونحن على خطاك، لا مبدّلين ولا مستبدلين