كتب الدكتور احمد الخصاونة :جامعات تُخرّج خبراء مال.. لماذا المديونية؟
جامعات تُخرّج خبراء مال.. لماذا المديونية؟
_مقالات
مديونية الجامعات الأردنية لم تعد رقمًا في ذيل تقرير مالي، ولا أزمة عابرة يمكن تجاوزها بقرارات إسعافية أو حلول مؤقتة، بل أصبحت مرآة تعكس خللًا عميقًا في طريقة التفكير والإدارة وصناعة القرار. هي أزمة تكشف أن المشكلة ليست في شحّ الموارد فقط، بل في كيفية إدارتها، وفي غياب الرؤية، وفي ثقافة الاكتفاء بتدوير الأزمة بدل مواجهتها. فالجامعات التي يفترض أن تكون بيوت خبرة وعقول دولة، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مؤسسات مثقلة بالديون، عاجزة عن الحركة، محكومة بالخوف من التغيير، ومقيّدة بتشريعات وأعراف عطّلت قدرتها على التجدد، حتى باتت تدفع أثمان أخطاء تراكمت عبر سنوات طويلة دون مراجعة جادة.
لقد اعتادت هذه المؤسسات التعامل مع المديونية كحالة طارئة لا كمرض مزمن، فكان الحل غالبًا مزيدًا من التأجيل، أو الاعتماد على دعم استثنائي، أو تحميل الطلبة وأسرهم أعباء إضافية، دون الاقتراب من جوهر الخلل. ومع الوقت، تحوّل العجز المالي إلى عبء نفسي وإداري، شلّ القدرة على المبادرة، وأدخل الجامعات في دائرة مغلقة من الخوف والحذر، حيث يصبح الهدف هو البقاء لا التطور، وتسديد المستحقات لا بناء المستقبل، وتفادي الصدام لا اتخاذ القرار الصائب.
وفي ظل هذا الواقع، تراجعت مكانة الجامعة بوصفها محركًا للتنمية ورافعة للاقتصاد الوطني، لتصبح في بعض الحالات عبئًا على الخزينة، بدل أن تكون شريكًا في الإنتاج. وغاب التفكير الاستثماري طويل الأمد، وحلّ مكانه منطق الإدارة اليومية، التي تنشغل بتسيير الأمور أكثر من انشغالها بصناعة الفرص. فالأراضي غير المستثمرة، والطاقات الأكاديمية غير المستغلة، والسمعة العلمية غير المسوّقة، كلها موارد مهدورة كان يمكن أن تشكّل مصادر دخل مستدامة لو أُديرت بعقل مختلف ورؤية أكثر جرأة.
كما ساهمت البيروقراطية المتراكمة، وتشابك الصلاحيات، وضعف الحوكمة، في تعميق الأزمة. فقرارات جوهرية تتأخر، وأخرى تُفرغ من مضمونها، ومسؤوليات تتوزع على الجميع فلا يتحملها أحد. ومع غياب المحاسبة، تتحول المديونية إلى رقم يُرحّل من عام إلى عام، دون أن يُسأل أحد: من أخطأ؟ ولماذا؟ وكيف يُمنع تكرار الخطأ؟
الأخطر من ذلك أن هذا الواقع يتناقض مع الدور الذي تقوم به الجامعات في التعليم والتكوين. فهي تُدرّس الإدارة الحديثة ولا تطبقها، وتشرح النظريات المالية ولا تنجح في إدارة موازناتها، وتحدّث عن الحوكمة والشفافية فيما ممارساتها الداخلية تعاني من التردد والانغلاق. هذه الفجوة بين ما يُقال في القاعات وما يُمارس في المكاتب الإدارية أضعفت الثقة المجتمعية بالجامعة، وأثرت على صورتها بوصفها نموذجًا يُحتذى.
إن استمرار هذا المسار لا يهدد الجامعات ماليًا فحسب، بل يهدد رسالتها ودورها ومكانتها الوطنية. فجامعة مثقلة بالديون، خائفة من القرار، ومشلولة بالتشريعات، لا تستطيع أن تبتكر، ولا أن تنافس، ولا أن تقود التغيير. ولهذا فإن التوسع في فهم أزمة المديونية يجب أن يقود إلى قناعة راسخة بأن الحل لا يكمن في المال وحده، بل في إعادة بناء العقل الإداري، وتجديد الرؤية، وكسر ثقافة التردد، والانتقال من إدارة الأزمة إلى إدارة المستقبل، قبل أن تتحول الجامعات من مؤسسات تعليمية إلى عبء ثقيل على الدولة والمجتمع معًا.
لقد أثبتت السنوات الماضية أن الحلول التقليدية لم تعد مجدية. رفع الرسوم أرهق الطلبة وأسرهم، وتخفيض النفقات أصاب العملية الأكاديمية في جوهرها، والاقتراض لتسديد الاقتراض لم ينتج سوى أرقام أكبر وعجز أعمق. كل ذلك جرى دون أن تُمسّ البنية الحقيقية للأزمة، ودون أن يُطرح السؤال الجريء: هل تدار جامعاتنا بعقل الدولة أم بعقل الوظيفة؟ وهل تُبنى القرارات على مصلحة التعليم والوطن أم على توازنات آنية ومجاملات مستدامة؟
إن الخروج من هذا النفق يبدأ من الإقرار بأن الجامعة ليست مبنى ولا عدد طلبة ولا كادرًا متضخمًا، بل مشروع وطني منتج، يجب أن يُدار بعقل استثماري معرفي لا بعقل إنفاقي استهلاكي. تطوير البرامج الأكاديمية لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية. لم يعد مقبولًا الإصرار على برامج مكررة ومشبعة لا يقبل عليها أحد، ولا تخدم سوق العمل، ولا تجذب طالبًا أجنبيًا. المطلوب برامج نوعية حديثة، مرتبطة بالعالم لا بالجغرافيا، وقادرة على المنافسة الإقليمية والدولية، تُدرّس بلغات متعددة، وتُصمّم بعقل السوق لا بعقل اللائحة.
كما أن الحديث عن دمج المؤسسات لم يعد من المحرمات، بل من أدوات الإصلاح. فالإبقاء على جامعات ضعيفة ماليًا وأكاديميًا بدافع الخوف أو الحساسيات المحلية لا يخدم أحدًا. الدمج المدروس يعيد توزيع الموارد، ويخفض الكلف، ويخلق كيانات أقوى وأكثر قدرة على البقاء.
وفي المقابل، لا يجوز أن تبقى الجامعات حبيسة الدور التقليدي، فيما يمكنها أن تكون لاعبًا استثماريًا ذكيًا. دخول الجامعات الحكومية في شراكات لإنشاء جامعات خاصة، أو مؤسسات تعليمية تطبيقية، عبر صناديق استثمار تعليمية، ليس تفريطًا بالتعليم العام كما يُصوَّر، بل حماية له واستدامة لموارده. فالمعرفة حين تُدار بذكاء يمكن أن تكون مصدر دخل، لا عبئًا دائمًا على الدولة.
والأفق لا يجب أن يتوقف عند الحدود. التعليم الأردني يملك سمعة وخبرة ورأس مال بشري قادراً على التوسع خارج البلاد، سواء في الدول المجاورة أو في شرق آسيا وإفريقيا. فتح فروع، أو برامج مشتركة، أو مراكز تعليم عابر للحدود، يمكن أن يحوّل الجامعة من مؤسسة محلية مأزومة إلى لاعب إقليمي منتج، ويعيد الاعتبار لدور التعليم كرافعة اقتصادية وطنية.
لكن كل ذلك لن يتحقق دون قرار واضح. أزمة الجامعات ليست شأنًا إداريًا داخليًا، بل قضية دولة تمسّ مستقبلها وأمنها المعرفي والاجتماعي. هي بحاجة إلى تدخل من أعلى المستويات، وإلى لجنة إصلاح وطنية مستقلة، لا تُدار بالمجاملة ولا تخضع للضغوط، تمتلك الصلاحية والجرأة وتعمل وفق جدول زمني واضح ومحاسبة شفافة.
ولا يمكن لأي إصلاح أن ينجح دون إعادة النظر في التشريعات التي كبّلت الجامعات وأفرغت مفهوم العدالة والجودة من مضمونه. سياسات القبول، والاستثناءات التي تحوّلت إلى قاعدة، أضعفت المستوى الأكاديمي وعمّقت الفجوة بين الإمكانات والواقع. إعادة الاعتبار لمبدأ تكافؤ الفرص، وربط القبول بالطاقة الاستيعابية وسوق العمل، شرط أساسي لاستعادة التوازن.
ويبقى جوهر المشكلة في القيادة.. آن الأوان لتغيير فلسفة تعيين الرؤساء، وربط استمرارهم بالإنجاز الفعلي لا بالقدرة على تجنب الصدام.
مديونية الجامعات ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات مؤجلة وقرارات غائبة. والإنقاذ الحقيقي لا يكون بالمسكنات ولا بالشعارات، بل بجرأة الاعتراف، وشجاعة الإصلاح، وتحميل المسؤولية لمن يتولاها. فالجامعة التي تعجز عن إدارة نفسها، لا يمكنها أن تبني مستقبل الوطن..