كتب أ.د. محمد الفرجات: عندما يرتبك الشتاء… وتحتار الأشجار!
عندما يرتبك الشتاء… وتحتار الأشجار!
مقالات كتب أ.د. محمد الفرجات
L
يشهد الأردن هذا العام ظاهرة مناخية غير مألوفة، إذ تحوّل مطلع الشتاء إلى أجواء صيفية دافئة غير معتادة، فبدت الأشجار والنباتات وكأنها في حالة من “الارتباك” أو “الصدمة الفينولوجية”، وهي حالة علمية معروفة ناجمة عن اضطراب الإشارات البيئية التي تعتمدها الكائنات النباتية لتنظيم دورات حياتها السنوية.
فالنباتات لا تملك إدراكًا شعوريًا للزمن، لكنها تعتمد على درجة الحرارة، وطول النهار، والرطوبة كمؤشرات تحدد بها مواسم النمو والإزهار والسكون. وعندما تأتي موجات دافئة في وقت يفترض أن يكون فيه البرد قارسًا، كما هو الحال الآن، فإن بعض الأشجار “تُخطئ التقدير” وتظن أن الربيع قد حل، فتبدأ بإفراز براعمها أو زهورها قبل أوانها.
هذا الارتباك المناخي لا يمر دون آثار. فعندما تعود موجات الصقيع مجددًا، تتضرر تلك البراعم المبكرة، وتفقد الشجرة جزءًا من طاقتها ومخزونها الحيوي الذي كان يفترض أن تستخدمه لاحقًا في موسم النمو الحقيقي. ومع استمرار هذه الدورات الخاطئة، يضعف النبات تدريجيًا وتقل قدرته على مقاومة الأمراض والآفات.
وفي الأردن، رصد المزارعون خلال الأعوام الأخيرة إزهارًا مبكرًا لأشجار اللوز والمشمش والتين والعنب في محافظات مثل الكرك والطفيلة والشوبك والبترا، أعقبه تلف كبير بسبب موجات صقيع مفاجئة. كما لوحظت زيادة في نشاط بعض الحشرات الضارة التي كان يُفترض أن تتوقف خلال الشتاء، ما يعني أن “الفصول” لم تعد تعمل كما كانت من قبل.
حتى الأشجار دائمة الخضرة، مثل الزيتون والصنوبر، وإن كانت أقل تأثرًا، إلا أن التقلبات المتكررة في درجات الحرارة تؤثر في معدلات نموها وتوزيع الأوراق والثمار وجودتها.
هذه الظواهر ليست مجرد طارئ موسمي، بل مؤشر واضح على تغيّر المناخ العالمي الذي بدأ يفرض أنماطًا جديدة على بيئاتنا الزراعية والطبيعية. فالارتباك في سلوك النباتات هو إنذار بيئي مبكر يدعونا إلى التفكير بجدية في كيفية التكيّف مع هذا الواقع الجديد، سواء من خلال تعديل مواعيد الزراعة، أو استخدام أصناف أكثر مقاومة، أو تطوير نظم مراقبة مناخية دقيقة تساعد المزارعين في اتخاذ قراراتهم.
إن الأشجار — بصمتها وجمالها وثباتها — كانت على الدوام رمزًا للتوازن بين الإنسان والطبيعة. واليوم، وهي “تحتار” في زمن الفصول المتقلبة، لعلها تذكّرنا بأن الخلل ليس فيها، بل في المناخ الذي غيّرناه نحن.