كتبت الدكتورة المهندسة دانية العيساوي: الفيضانات في الأردن: قراءة في البنية التحتية والتغير المناخي ومسارات الحل الوطني
الفيضانات في الأردن: قراءة في البنية التحتية والتغير المناخي ومسارات الحل الوطني
_الدكتورة المهندسة دانية العيساوي
تتزايد في السنوات الأخيرة حدة الفيضانات في الأردن، ليس فقط من حيث قوة الهطول المطري، بل في حجم الأضرار التي تطال المدن والسكان والبنية التحتية. وبينما تنشغل الحكومات والمجالس البلدية كل عام بسبل احتواء الأزمات وتخفيف آثارها، يظل السؤال الجوهري قائمًا: لماذا تتكرر الفيضانات رغم كل ما يُقال عن خطط الاستعداد؟
الإجابة تتجاوز فكرة “ضعف شبكات التصريف” وحدها، لتصل إلى إطار أعمق يشمل التخطيط الحضري، إدارة الموارد المائية، التوسع العمراني، والضغوط المناخية العالمية. وهذا ما يحاول هذا المقال تحليله بصورة شاملة وموضوعية.
أولاً: الفيضانات لم تعد “حدثًا استثنائيًا” بل أصبحت جزءًا من نمط مناخي جديد
تشير البيانات المناخية الإقليمية إلى أن الشرق الأوسط يعيش مرحلة من التطرف المناخي:
موجات مطر قصيرة زمنياً لكنها شديدة،
تفاوت كبير بين سنوات الجفاف وسنوات الهطول القوي،
ازدياد الجريان السطحي نتيجة الجفاف الطويل الذي يقلل امتصاص التربة للمياه،
ارتفاع درجات الحرارة العالمية، ما يزيد من قدرة الغلاف الجوي على حمل كمية أكبر من بخار الماء وبالتالي هطولات أعنف.
هذا يعني أن الفيضانات الحالية ليست “ظاهرة طارئة”، بل تحول مناخيٌّ طويل المدى، يفرض على الأردن — كغيره من الدول — إعادة النظر في فلسفة تصميم المدن وشبكات الصرف.
ثانيًا: المشكلة الحقيقية ليست في التصريف وحده بل في “الهيدرولوجيا الحضرية” ككل
غالبًا ما يُختزل سبب الفيضانات في عبارة: “شبكة التصريف غير كافية”.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير؛ فحتى الشبكات المصممة هندسيًا لاحتواء معدلات عالية من الأمطار تفشل عندما تتغير طبيعة السطح الحضري، وترتفع نسب الأسفلت والباطون، وتتقلص المساحات الخضراء.
العوامل الرئيسية التي تضعف قدرة المدن على امتصاص مياه الأمطار:
1. التوسع العمراني على حساب الأراضي الطبيعية
تضيع “المناطق الماصة للمياه” وتتحول المدن إلى سطح صلب لا يسمح بتسرب المياه إلى التربة.
2. البناء فوق مجاري السيول ومسارات الأودية القديمة
وهو خطأ تخطيطي وهندسي كبير، يقوم على تجاهل الخرائط الجيومورفولوجية.
3. غياب نظام وطني لإدارة مياه الأمطار (Stormwater Management)
حيث لا تزال الأمطار تُعامل كمشكلة “يجب التخلص منها” وليس كمورد يجب حصاده وإدارته.
4. انسداد التصريف بسبب ضعف الصيانة الدورية
ما يحوّل عشرات المواقع في المدن — وخاصة عمّان وإربد والزرقاء — إلى نقاط فيضانات متكررة.
النتيجة:
حتى لو تمت مضاعفة شبكات التصريف، فإن الفيضانات ستستمر ما دامت المدينة غير ذات قدرة امتصاصية طبيعية، وما دامت إدارة المياه تعتمد على “تفريغ المياه” لا على “تنظيمها”.
ثالثًا: دور الجيولوجيا والطبوغرافيا في تفسير الفيضانات (زاوية علمية مغفول عنها)
تكشف الجغرافيا الطبيعية للأردن عن تغيير كبير في استخدامات الأرض خلال العقدين الماضيين، خاصة في مدن الوسط.
فالطبوغرافيا شديدة الانحدار في عمّان والسلط تفرض جريانًا سطحيًا قويًا يمتد عبر أودية قديمة كانت تعمل لآلاف السنين كقنوات طبيعية لتصريف المياه.
لكن خلال التوسع العمراني:
أغلقت بعض الأودية،
ورُدمت أخرى،
وتغيرت خطوط الانحدار الطبيعية،
وتحوّل الجريان إلى طرق وشوارع وأحياء سكنية.
من ناحية علم الجيومورفولوجيا، هذه التغييرات تؤدي إلى “ضغط مائي هيدرولوجي” مفاجئ لا يمكن لأي شبكة تصريف تقليدية التعامل معه، مهما كان حجمها.
رابعًا: الاعتبارات الاقتصادية – هل يجب أن نبني بنية تحتية تستوعب أقصى عاصفة ممكنة؟
هذا السؤال محوري.
فالكثير يقفز إلى فكرة الحل السريع: “أنفقوا على شبكات عملاقة تمنع أي فيضانات مستقبلية مهما كان حجم المطر!”.
لكن ذلك غير واقعي لعدة أسباب:
1. الكلفة الهائلة
تصميم شبكات تصريف لاستيعاب عاصفة قصوى تحدث مرة كل 200 أو 300 عام قد يكلف مليارات الدنانير، وهو عبء لا تستطيع الدول تحمله دون التخلي عن استثمارات أخرى في التعليم والصحة والطاقة والنقل.
2. عدم الجدوى العملية
حتى الدول الغنية ذات الأنظمة الضخمة (سويسرا، هولندا، كوريا) تتعرض لفيضانات مفاجئة لأن العواصف أصبحت فوق قدرة التنبؤ.
3. النهج العالمي الحديث
يعتمد على “المرونة” وليس “المقاومة المطلقة”:
أي بناء أنظمة متدرجة ومتنوعة، لا نظام واحد عملاق.
خامسًا: ما الذي يحتاجه الأردن فعليًا؟ خطة وطنية مرنة ومتكاملة
1. إعادة الاعتبار للتصريف الطبيعي للأودية ومسارات المياه
إعادة فتح مسارات الجريان الطبيعية حيثما أمكن.
عدم السماح بالبناء على الأودية أو فوق خطوط الانحدار الحادة.
حماية مناطق الفيضانات الطبيعية وجعلها جزءًا من التخطيط الحضري.
2. بنية تحتية خضراء (Nature-Based Solutions)
حلول منخفضة الكلفة وعالية الكفاءة، منها:
حدائق المطر Rain Gardens
الأسطح الخضراء
الأرصفة النفّاذة للمياه Permeable Pavements
أحواض تجميع مؤقتة في الأحياء
مساحات خضراء تعمل كمناطق تخزين طبيعي للمياه
هذه الحلول تُخفّض الجريان السطحي بنسبة 20–50%.
3. نظام وطني لحصاد مياه الأمطار داخل المدن
بدلاً من التخلص منها، يمكن استخدامها في:
ري الحدائق
تنظيف الشوارع
دعم المياه الجوفية
تخفيض الضغط على مياه الشرب
4. تحديث القوانين العمرانية والهندسية
مثل اشتراط أن يكون لكل مبنى كبير نظام خاص لتجميع مياه السطح، أو تحديد نسب الأسفلت مقابل المساحات الخضراء في المجمعات السكنية.
5. خطة صيانة مركزية قبل موسم الشتاء
تشمل البلديات، القطاع الخاص، المجتمع المحلي، وتستخدم أنظمة GIS لتحديد النقاط الساخنة.
6. بناء قاعدة بيانات جيولوجية وهيدرولوجية وطنية
تستفيد من خبرة الجامعات والباحثين والجيولوجيين — وتعيد الاعتبار للعلم في اتخاذ القرار، لا فقط للاجتهاد البيروقراطي.
سادسًا: الفيضانات ليست خطرًا فقط… بل فرصة
قد يبدو هذا غريبًا، لكن الدول التي حولت الأمطار إلى “مورد” لا “مشكلة” كسبت:
خفض تكلفة المياه،
رفعت الغطاء الأخضر،
حسّنت جودة المدن،
وقلّلت الانبعاثات والبصمة الكربونية.
والأردن — بقلّة موارده المائية — قادر أن يكون نموذجًا عربيًا في “إدارة مياه الأمطار الذكية” إذا تبنى النهج الصحيح.
وبالنهاية، فالفيضانات في الأردن ليست مشكلة هندسية بسيطة، وليست نتيجة «مقصّر» واحد.
إنها نتاج تداخل عوامل مناخية، طبوغرافية، عمرانية، وجيولوجية واقتصادية.
والتعامل معها يتطلب:
فهمًا علميًا لطبيعة الأرض،
تخطيطًا حضريًا مسؤولًا،
بنية تحتية مرنة تجمع بين الخرسانة والطبيعة،
إصلاحًا إداريًا وقانونيًا،
وتعاونًا وطنيًا بين الحكومةف والبلديات والجامعات والمجتمع.
إن رؤية الفيضانات كـ جزء من المستقبل المناخي وليس حدثًا عابرًا هو الخطوة الأولى نحو مدن أردنية آمنة، ذكية، ومستدامة، تحمي الناس والممتلكات وتحوّل المياه من مصدر قلق إلى فرصة تنموية…